كان الحديث يجري دائما حول طنجة الموجودة فوق الأرض، ولم يقع التفكير يوما في ما تنطوي عليه من مكنونات في عالمها التحت أرضي إلى أن قفزت إلى السطح مؤخرا أخبار تتعلق بوجود طنجة أخرى تحت الأرض.. وذلك عقب وقوع عدة حوادث كلها ارتبطت بالعالم السفلي، حيث يحضر بقوة مشهد الممرات تحت أرضية بخيرها وشرها، ثم موضوع الأقبية التي تستوعب المئات من المعامل والمصانع العشوائية التي تبين أن الكثير منها يعمل بكيفية غير قانونية. وفي مقدمتها قبو معمل الموت الذي تسبب في إغراق مجموعة من العمال بعد أن غمرته سيول الفيضانات، وكذلك العشرات من الأقبية المظلمة التي تقبع في أسفل عمارات المجمعات السكنية التي بنيت بشكل منفلت من قيود المراقبة، لتتحول إلى مستنقعات دائمة مغمورة بالمياه الآسنة التي تنخر أساسات المباني وتفكك بنيتها وتضربها بالتشققات، كما تساهم في تفريخ البعوض وكل أنواع الحشرات. وهناك أيضا تلك السراديب الشبيهة بالكهوف التي تم تحويلها إلى حانات وملاهي وأوكار للدعارة وتناول الشيشة والمخدرات..
لكن الجديد الحي في هذا الصدد، كان هو خبر العثور على أنفاق وسراديب داخل منطقة المدينة القديمة تعود إلى العصور الماضية. وهي مكونات فريدة في بنائها وبنيتها وهندستها وخارطة توزيعها تحت أرضية المدينة، مما جعل منها مؤشرا يبشر بمولود جديد كان يحتاج من المسؤولين أن يخصوه بحسن الاستقبال.. لكن الرياح تجري بما لا تشتهيه السفن. فما أن تلقف الرأي العام الخبر، وأخذ ينسج حوله بعض التصورات والتخيلات التي تنشد اكتشاف خبايا طنجة وعالمها السحري الذي ظل مكتوما لعدة قرون، حيث جعل البعض يحلم بمسارات سياحية جديدة يمكن أن تحيي الطابع الأسطوري لمدينة طنجة، حتى صدر الأمر بإغلاق تلك الأنفاق من أجل وضع حد لتلك الطموحات. وهو موقف لم يفاجئ أحدا، لأن مسؤولي طنجة قد عرفوا بموقفهم المعادي للتراث والمخاصم لكل ما تشتم منه رائحة التاريخ. فهم لا يتساهلون إلا مع الأشياء التي يرون أنها أولى بالتقديم والإبراز والاهتمام، والتي يتم إدراجها ضمن مشاريعهم المخدومة، بغض النظر عن النتائج الكارثية التي ستجنيها المدينة على المدى القريب أو البعيد ..
إن حدث اكتشاف تلك الأنفاق، لم يكن مفاجئا بالنسبة للمطلعين على تاريخ المدينة ونسيجها العمراني، خاصة وأن مداخل تلك الأنفاق كانت بارزة للعيان في بعض النقط التي تم الاطلاع عليها من طرف كبار السن. كما أن الأشغال التي تم إنجازها على مستوى سور المدينة وكذلك في جرف باب المرسى، قد أبانت عن وجود أبواب ومنافذ تحت أرضية ذات مسارات متعددة. لكنه تم إغلاقها لتجنب الدخول إلى عالم مجهول.. وفي كل الحالات كان يتم التستر على ذلك لكي لا يصل الخبر إلى أولائك الذين ينبشون في الذاكرة التاريخية. وما زال الكل يتذكر كيف تعامل المسؤولون مع خبر أحد الأنفاق الذي تكشفت عنه أشغال تهيئة ساحة إسبانيا( المسيرة الخضراء). فحينما تبين وجود قوس تاريخي على شكل مقدمة لممر تحت أرضي، قام بعض الغيورين بالتقاط صورة الموقع لإثارة انتباه المسؤولين. وعلى ضوء ذلك تقدم بعض الفاعلين بطلب حماية ذلك الأثر، والتمسوا من المسؤولين التريث قبل القيام بهدم البناء أو طمس معالمه، مع فسح المجال للمهتمين بالتراث لمعاينة الموقع وإنجاز بحث أثري قبل استئناف الأشغال. وكان رد الفعل هو إصدار الأمر بتجريف الموقع وطمس معالمه بعد حصولها على التزكية عن طريق استصدار فتوى من المسؤول عن حماية التراث بالإقليم، والذي قدم شهادة زور وأنكر – حسب علمه- وجود أي شيء له علاقة بقوس تاريخي، مما أصاب الرأي العام بالصدمة..
وها هو التاريخ يعيد نفسه، لكن هذه المرة لم تستطع تلك الجهة نفي صحة الخبر والحقيقة، لأن الاكتشاف تم وسط منطقة سكنية، وأمام أعين الشهود الذين وقفوا على حجم تلك الأنفاق التي تخترق بطن المدينة القديمة .. ومع الإعلان عن الخبر، علت بعض الأصوات للمطالبة بالحفاظ على هذه الأنفاق والكشف عن خارطتها وإخضاعها للبحث التاريخي، ثم وضع تصور في أفق توظيفها وإدماجها ضمن المسارات السياحية.. لكن الجواب كان أسرع من وميض البرق، حيث صدر الأمر بإغلاقها وطمر مدخلها بالإسمنت المسلح من أجل طي هذا الملف بصفة نهائية. فهل يتعلق الأمر بعدم إدراك قيمة هذه الآثار وإمكانية استثمارها في المجال السياحي والثقافي؟ .. أم أن هناك سببا آخر لم يتم الكشف عنه ؟.. وأغلب الظن أن الرفض جاء بسبب خوف المسؤولين من التعاطي مع المجهول، ثم عجزهم كذلك عن استغلال تلك الأنفاق وتوظيفها كمزارات سياحية بسبب الصعوبات التي تطرحها على المستوى الأمني بالدرجة الأولى .. لكن ذلك لا يبرر ردمها وإغلاقها في وجه الدارسين والمهتمين بالبحث التراثي في إطار لجن مختصة للخروج بخلاصات يمكن أن تثري تاريخ المدينة، خاصة وأن الوثائق التاريخية تؤكد وجود خرائط خاصة بشبكة تلك الأنفاق التي تخترق المدينة وتربط داخلها بخارجها في عدة اتجاهات.. وهو ما يعني أن الأمر يحتاج فعلا إلى فسح المجال للمختصين قصد الاطلاع على هذا الملف وتتبع كل عناصره. وفي هذا السياق لا يسعنا إلا أن نشيد بكل من واكب هذا الموضوع وعمل على إثارته عبر وسائل الإعلام. ونخص بالذكر ذ/ عبد الصادق الذي نشر شريطا يشير فيه إلى القيمة التاريخية لتلك الأنفاق بناء على ما يتوفر لديه من وثائق ومعلومات، وما يمكن أن تحققه من قيمة مضافة بالنسبة لدارسي التراث في أفق إغناء تراث المدينة.. كما أنه دعا الجهات المسؤولة إلى الكشف عن معطياتها بخصوص هذه الأنفاق والإعلان عن موقفها الواضح، ثم وعد بتقديم مزيد من المعطيات التي سينور بها الرأي العام (أنظر الشريط).
وعلى فرض أن هذا القرار يتعلق بالجانب الأمني، بحكم عدم توفر الإمكانات اللوجيستيكية والإدارية لإحياء تلك الأنفاق وإدماجها ضمن مخطط الاستثمار السياحي. فهل هناك ما يمنع إمكانية إخضاعها للبحث والدراسة لمعرفة طبيعة تكوينها ومراحل تطورها، خصوصا وأن وجودها يرتبط بفترة ما قبل دخول البرتغال إلى طنجة، مما يعني أنها تعود لعصور أقدم. كما أن عدم اكتشافها وتتبع أثرها – في حد ذاته- سيطرح إشكالية أخرى من الجانب الأمني، لأنها تمر تحت المباني السكنية، مما يترك الباب مفتوحا على كل الاحتمالات ما لم يتم الكشف عن هويتها، ثم العمل على ترميمها وتصحيح بنيتها وتحصينها ..إذ يمكن لا قدر الله أن تتعرض للانهيار فتتسبب في حدوث كوارث لا تحمد عقباها..
يمكن استحضار صورة طنجة التحت أرضية وكذلك التراث المغمور الذي لم يتم اكتشافه إلا على يد الباحثين الأجانب منذ مطلع القرن العشرين، حيث إن الكثير من الآثار بطنجة لم يكن لها وجود فعلي في ذهنية الناس حتى اكتشفت من طرف أولائك الدارسين بناء على وثائق تاريخية تعود إلى العهود القديمة، مثل مدينة كوطا، والمقبرة الرومانية، والمقبرة البرونزية في سيدي قاسم، ومدينة زليل بأحد الغربية… وقد تمكنوا من وضع خريطة لتلك المواقع التي تم التوصل إليها، والتي أجريت بشأنها بحوث ودراسات مستفيضة، كان آخرها دراسة العالم الأركيولوجي الفرنسي “موريس لونوار” الذي ذكر أنه اكتشف وجود حوالي 200 موقع أثري بجهة طنجة، كانت في معظمها مدفونة تحت الأرض، كما أنها تحتاج إلى إجراء مسح أثري وبحوث أركيولوجية. وقد بذل من جهته كل الجهود بهدف إقناع المسؤولين لمساعدته على إجراء دراسة حول تلك المواقع قبل أن تتعرض للتدمير والإتلاف، فلم يستجب أحد لطلبه حتى انسحب مهزوما من الميدان..
ولا يمكن كذلك نسيان الدور الذي قام به أحد الباحثين المغاربة الذي كان حريصا على إتمام ما بدأه لونوار، حيث إنه قام بدور ريادي في الكشف عن بعض المواقع التاريخية التي تعود لعهود موغلة في القدم، مثل مدينة البنيان في جماعة جوامعة، ثم مقبرة رومانية في مدشر أولاد عيسى بمنطقة أربعاء عياشة .. لكن الحدث الذي لا يجب أن ينسى، لأنه يكشف عن طينة المسؤولين الذين ابتليت بهم طنجة، هو حينما تقدم هذا الشخص في سنة 2004 بطلب إجراء بحث تاريخي في موقع برج الغندوي الذي يؤرخ للفترة الموحدية. فبعد أن حصل على ترخيص رسمي من أجل الشروع في العمل على مستوى المجال الخارجي للبرج التاريخي، حيث كانت هناك آثار أفران لصنع القرميد ولقى خزفية، مما كان يؤشر إلى أهمية الموقع، صدر الأمر من ولاية المدينة لتوقيفه عن العمل، كما أرسلت القوات العمومية لمنعة من مواصلة البحث، لأنها كانت مستعجلة لفسح المجال أمام أحد الأقطاب العمرانية الذي كان وبالا على المنطقة. وقد ساهم ذلك المشروع في تدمير كل البنيات التراثية التي كانت تزخر بها منطقة الغندوري، وعلى رأسها القسم الخاص بتراث الفترة الإسلامية، ثم مركز عسكري روماني، وضريح سيدي الغندوري، ونادي الرماية، وكذلك مراكز الجيش الإسباني على امتداد الشاطئ في منطقة كانت مجهزة بأنفاق وأبراج ومباني .. ثم مبنى “عازريطو” وهو المبنى الذي كان مخصصا للعزل الصحي لمنع انتقال الأمراض المعدية..وقد استغل فيما بعد سجنا مدنيا خلال عهد الحماية وبداية الاستقلال .. كل هذه المباني تم التخلص منها بدون رحمة. والأخطر من ذلك هو أنه تم الاعتداء على الساحل الذي غزاه الإسمنت وقضى على وجوده.. وتجدر الإشارة إلى أن كل المواقع التاريخية التي سلمت من الهدم والإبادة، قد ظلت تحت رحمة الإهمال واللامبالاة، مما ألحق بها دمارا كبيرا ساهم في القضاء عليها أو تشويهها بالكامل. وهذا موضوع يمكن العودة إليه وتناوله بتفصيل..
ففي ظل هذا الواقع المزري الذي يغيب فيه الحس التاريخي والوعي بالمصالح الحقيقية للوطن ولساكنة هذه المدينة وللوطن.. ماذا ينتظر من مثل هؤلاء المسؤولين الذين لا يرون أبعد من أرنبة أنوفهم ..؟. فكيف لهم أن يدركوا قيمة ما يعرف بالتراث الإنساني الذي يعد من مميزات طنجة؟
فلك الله ياطنجة، لأنه لا يمكن أن يعول على مثل هذه الكائنات التي لا تحمل مثقال ذرة من الغيرة على المصلحة العامة .. فمن عجز عن حماية ما هو مكشوف فوق الأرض، كيف ينتظر منه أن يهتم بما في باطنها من آثار ؟
المكتب المركزي لرباطة الدفاع عن حقوق المستهلكين
03-04-2021
طنجة ” التحت أرضية” في مقابل طنجة الفوقية !!!
