هذا تعليم طبقي،أولاد الشعب في الزناقي

إنه الشعار الخالد الذي تولد من رحم الاحتجاجات التلاميذية خلال أحداث 1965 في الدار البيضاء، واستمر ترديده وتداوله من طرف التلاميذ والطلبة والأطر العاملة بقطاع التعليم على امتداد عدة عقود، فمن جهة كان الشعار توصيفا للواقع، ومن جهة أخرى أصبح مؤشرا لمستقبل الأيام التي ستعرف انطلاقة مخطط تصفية التلاميذ والتخلص منهم بشتى الطرق، ثم إضعاف هياكل النظام التعليمي والتضحية بكل المكتسبات من أجل فسح المجال للخوصصة والتخلص من عبء عملية التوظيف وكل مظاهر الإنفاق على القطاع الذي تحول إلى عبء على كاهل الدولة.. وقد تكشفت النتائج منذ البداية عن تلك الكوارث التي أشارت إليها التقارير والدراسات المحلية والدولية، حيث تعمقت الأزمة حتى وصلت إلى ما وصلت إليه بجهل من المسؤولين أو بنية مبيتة مع سبق الإصرار والترصد، إذ سيمر نظامنا التعليمي بأوضاع مأساوية على صعيد البنيات والمردودية والفعالية، مما ساهم في انسداد الآفاق وفقد كل آمال في الإصلاح والإنقاذ، خاصة وأن كل تجارب الإصلاحات المكلفة باءت بالفشل، وفي كل مرة تتم العودة إلى نقطة الصفر. وبعد ما يقارب 70 سنة من الاستقلال الذي كان من أولوياته وضع أسس نظام تعليمي ووطني ديمقراطي وحدوي، نجد نحن المغاربة أنفسنا في مفترق الطرق؛ لا ندري أي السبل يمكنها أن تصل بنا إلى شط النجاة والخروج من الأزمة القاهرة. فما زالت الحكومات المتعاقبة تمارس لعبتها المفضلة في تجريب الصيغ والنماذج الفاشلة تلو أخرى موهمة الرأي العام بأنها تقوم بالواجب.
فبعد مسلسل المواثيق السابقة والبرامج المخططات الإصلاحية التي اتضح أنها كانت مضيعة للوقت، حل موعد الحكومة الجديدة التي طلعت على المغاربة بسيمفونية جديدة تعد بالمعجزات.. والجديد هذه المرة هو الاستناد إلى نبوءات وتحاليل وقراءات رئيس اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي التي يبدو أنها تمارس لعبة قراءة الفنجان، إذ تبين لها أن الحل الأول لإصلاح منظومة التعليم هو تسقيف سن الولوج إلى الوظيفة والتخلص بكل الوسائل ممن تجاوز سنه الثلاثين؛ لأنه لم يعد صالحا- للعادة ولا للعبادة- ولا يمكن القبول به لممارسة مهنة التعليم لأنه سيكون عبئا على القطاع، كما أنه سيكون عديم الفعالية. فهذا هو تفسير الوزير لقراره الذي تعززه الحكومة وتباركه بحماس، دون مبالاة بالزوبعة التي أثارها ولا بالمشاكل التي يمكن أن تترتب عن إقصاء الآلاف من خريجي الجامعات وحاملي الشهادات بعد أن ظلوا لسنوات ينتظرون أن تتاح لهم فرصة الولوج إلى الوظيفة العمومية..
لو كان الوضع سليما معافى، والبدائل متوفرة للتوظيف على مستوى باقي القطاعات الحكومية التي يمكن أن تفتح باب التوظيف وتساهم في امتصاص كتلة البطالة، لسلمنا للوزير ولنظريته، ولقلنا نعم لتصوره إن كان سيحقق النتائج المرجوة التي سترقي بالنظام التعليمي إلى مستويات أعلى. أما أن تكون منابع التوظيف مجففة والفرص منعدمة في شتى القطاعات، وفي نفس الوقت يتم وضع السدود في طريق التوظيف بسلك التعليم ومنع الراغبين في تحقيق هذا الحلم رغم أهليتهم واستعدادهم الكامل للعمل وفق الشروط المطلوبة، فذلك هو المنكر بعينه، وهو الشيء الذي يرفضه الجميع الآن بصوت واحد ويردده طلبة الجامعات وكذلك المعطلون حاملو الشهادات ثم الهيئات والمنظمات السياسية والنقابية والحقوقية والفرق البرلمانية التي – تستنكر- فالكل يطالب بالتراجع عن هذا القرار المجحف لأنه لن يخدم الوطن في شيء، وخصوصا في هذه الظرفية المعقدة التي تحتاج إلى التروي وتجنب ارتكاب مزيد من الأخطاء والحماقات التي ساهمت في إغراق هذا القطاع وتعويمه..
الوزير يرى أن التعليم يحتاج إلى أطر شابة قوية- مفتولة العضلات- دون الثلاثين من أجل ضمان حسن المردودية وتقوية البنيات في أفق إعداد المواطن الصالح والرفع من المستوى التعليمي وتقوية الكفاءات، متناسيا أن هؤلاء الخريجين هم أبناء المدرسة المغربية الذين خذلتهم دولتهم، ولم توفر لهم ما كانت تمنيهم وتعدهم به.. بل فرضت عليهم الانتظار والتعلق بالسراب لسنوات حتى فاتهم القطار.. والمسؤولية تتحملها الحكومات المتعاقبة التي وضعت نفسها في الصف المعادي لحقوق هؤلاء وانتظاراتهم .
يتم الآن البكاء على مصير المدرسة المغربية، وكأن الجهات المسؤولة لم تكن طرفا أساسيا في الأزمة. وهي التي وقفت موقف العداء من رجال التعليم والتلاميذ في عدد من المحطات بدلا من الإصغاء إلى النصائح والمطالب المشروعة التي كانت تهدف في العمق إلى إنقاذ السفينة من الغرق. فقد أصرت على تبني الرأي الأحادي المنغلق وطرح ما سواه، حتى وصلت المدرسة والجامعة المغربية إلى ما وصلت إليه من الهزالة والإفلاس.. فإذا كان هؤلاء قد تجاوزوا الثلاثين من عمرهم دون أن ينقطع أملهم في العمل بين أحضان الدولة الأم”الرحيمة”، فمن الذي حال دون توظيفهم وتشغيلهم طيلة هذه السنوات العجاف ولم يكافئهم على اجتهادهم وطموحهم ورغبتهم في خدمة الوطن في إطار تخصصاتهم المختلفة؟ ومن الذي أغلق الأبواب في وجوههم ومنعهم بالحديد والنار من الاقتراب من سدة البرلمان ومن حصون ومعاقل القطاعات الوزارية؟ وكيف عاش هؤلاء طيلة هذه المدة وهم ينتظرون العطف من المجتمع؟
تشير البيانات أن النسبة العامة للتلاميذ الذين يلتحقون بالجامعة بعد الباكلوريا لا يتجاوز 12 % وأن عدد الذين يغادرون الجامعة قبل إتمام الدراسة يفوق عددهم نسبة 50 %. وهو ما يعني أن هذه الفئة الاجتماعية ليست في الوقع إلا تلك النسبة القليلة التي ظلت مرابطة مجاهدة في الجامعات حتى حصلت على الشواهد العليا، مما يدل على أن إقصاء هؤلاء بهذه الكيفية والتخلص منهم بهذه القسوة لا يمكن وصفه إلا بجزاء سينمار.
إن كيفية تعاطي الحكومات مع ملف حاملي الشهادات يعد قمة العبث، وقد بلغت الذروة بقرارها الأخير القائم على منطق الإقصاء والانتقاء لأهداف غير واضحة، مخالفة بذلك مبدأ تكافؤ الفرص. فهذا القرار يطرح تساؤلات عدة حول النوايا والأهداف الحقيقية التي تحركه. فهل يعقل أن تتكبد الدولة عبء تعليم هذه الأجيال من الطالبة والإنفاق على تكوينهم، ثم تقول لهم في النهاية، اذهبوا فأنتم الطلقاء.؟ وكيف يمكن تصديقها خطابها وبرامجها الهادفة إلى إنقاذ النظام التعليمي وخدمة التلميذ المغربي؟. ألم يكن هؤلاء الضحايا تلاميذ في ظل نفس النظام التعليمي الطبقي؟
لكن الصورة كانت واضحة منذ البداية، فمنذ عدة عقود، رفع أبناء الوطن ذلك الشعار منددين بالتعليم الطبقي لما أحسوا بخطر المؤامرة. وقد صدقت نبوءتهم، ففي حينه كانوا يتحدثون عن الواقع الفعلي ومآلاته التي تتكشف اليوم للعيان تحت إشراف الحكومة الجديدة التي رأت أن طريقها لن يكون معبدا إلا بالبدء بهذه النقطة السوداء كجزء من الإصلاح الوهمي..
المكتب المركزي لرابطة الدفاع عن حقوق المستهلكين
24-11-2021

Related posts

Leave a Comment